هل أمريكا تطبع أم تستدين؟ | محمد الصياد
د. محمد الصياد *
مع تسرب الهواجس حول احتمالات وصول الحكومة الأمريكية إلى حالة من الإعسار المالي والتخلف عن السداد “Default” (توقف المقترض عن سداد المدفوعات المطلوبة على الدين، سواء كان ديناً مضموناً بمنزل، أي رهن عقاري، أو غير مضمون مثل بطاقة ائتمان، أو ديناً حكومياً بضمان الصكوك/السندات الحكومية بأنواعها) – من الكواليس إلى الفضاء العام المحدود، في ضوء تصاعد الدين الحكومي الأمريكي بصورة كبيرة تتجاوز طاقة الدولة على إنتاجها السنوي من إجمالي ناتجها المحلي (بلغ إجمالي الدين الحكومي الأمريكي حتى مارس 2024، 124.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وبالقيمة المطلقة، نحو 35 تريليون دولار)، عاد الحديث عن الخطورة التي تنطوي عليها طبيعة الاستدانة الحكومية الأمريكية، والجدل المرافق لها بشأن طباعة الحكومة للدولار لتغطية نفقاتها والتزاماتها المالية المتزايدة.
في سياق هذا الجدل، خصوصاً المندلع بين الأمريكيين الاختصاصيين والمشتغلين عموماً في دوائر عالم المال والأعمال، تظهر بعض «الاجتهادات» التي تحاول تفسير ظاهرة عدم حدوث تضخم مفرط “Hyperinflation” (ارتفاع معدل التضخم بصورة سريعة بواقع 50% شهرياً) في أمريكا رغم لجوء الحكومة الأمريكية لطباعة تريليونات الدولارات من دون أن يتوفر لها غطاء ذهبي أو اقتصادي. تذهب الرواية إلى أن حكومة الولايات المتحدة لا تطبع النقود، وإلا لكان التضخم في أمريكا وصل إلى أرقام فلكية. ما تفعله حكومة الولايات المتحدة هو بيع السندات، أي استدانة المال. حيث تشتري الحكومات الأجنبية، خصوصاً منها التي تصدّر لأمريكا أكثر مما تستورده منها (الصين على سبيل المثال)، وكذلك شركات أمريكا وأثرياؤها، هذه السندات، ويجنون منها فوائد بعائد مرتفع ومضمون (لأن الجهة المصدرة للسندات حكومة الولايات المتحدة)، مقابل تغطية عجز الموازنة الأمريكية، الذي يُراكم الدين الحكومي الأمريكي. وحتى حين لا تجد الحكومة الأمريكية ما يكفي من المشترين لسنداتها، وهو اتجاه بدأ بعد الأزمة المالية الأمريكية (تحولت إلى أزمة عالمية) في عام 2008، فإن الحكومة الأمريكية لن تعمد لخفض إنفاقها لتغطية الفارق. إذ سيتكفل مجلس الاحتياطي الفيدرالي (الذي يُفترَض أنه البنك المركزي الأمريكي)، بشراء السندات التي لا تجد من يشتريها. ولأن الفيدرالي لا يملك المال لشراء هذه السندات، فهو يقوم، بكل بساطة، بطباعتها. الحكومة نفسها لا تطبع النقود، وإنما «الاحتياطي الفيدرالي» هو الذي يفعل. ولأن الاحتياطي الفيدرالي ليس حكومياً، إذ هو ملكية خاصة، فإن الحكومة الأمريكية لا تتحمل فيض النقود التي تقذف بها مطبعة الاحتياطي شرقاً وغرباً.
هل هذه عملية نصب واحتيال؟ حتى هؤلاء «المجتهدون الاقتصاديون»، يقولون نعم هي كذلك، وإن العالم لا يريد أن يصدق ذلك، ويتعامل مع الحقيقة كأمر واقع. الصين، على سبيل المثال، تستفيد من هذه العملية. فالولايات المتحدة تستورد الكثير من السلع والخدمات من الصين، فتقوم الصين، باستخدام جزء من الدولارات التي تحصل عليها في شراء السندات الأمريكية وتحصيل معدل فائدة مجز، واستخدام جزء آخر استثمارياً في الدول الأخرى، بما في ذلك شراء الأصول من بلدان في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي تقوم بدورها باستخدام الدولارات التي حصلت عليها من الصين في شراء النفط والمنتجات النفطية المقومة بالدولار. وبدورها تقوم الدول التي حصلت على هذه الدولارات من مبيعاتها النفطية باستثمارها في السندات الحكومية الأمريكية.
وبهذه الطريقة، لن يفلس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ما دام يطبع النقود إلى ما لا نهاية. لكن الاقتصاد الأمريكي، يقترض أكثر مما يستطيع سداده بإنتاجه الوطني، وهذا يخلق مشكلة على المدى الطويل، حيث ستؤدي طباعة النقود (من قبل حكومة الولايات المتحدة عبر الاحتياطي الفيدرالي)، إلى التضخم، وارتفاع التضخم يعني ارتفاع أسعار الفائدة، وأسعار الفائدة المرتفعة تضغط على الاقتصاد وتؤدي إلى إنتاج أقل، وجمع ضرائب أقل، ما يقود إلى طباعة المزيد من الأموال، أي إلى ارتفاع التضخم. والأدهى، أنه في خضم هذه الدوّامة الهبوطية، لا تعمد الحكومة الأمريكية لتقليل نفقاتها، بل على العكس، كلما تفاقمت الأمور، زاد إنفاقها.
وفقاً للمنطق الاقتصادي، فإن كل هذا يُفترَض أن ينتهي بالتضخم المفرط وانهيار الدولار، ما سيؤدي إلى عزوف الجميع عن شراء سندات (ديون) الولايات المتحدة؛ لأن الأخيرة لا تتعامل بمسؤولية مع أزمة تضخم مديونيتها، بما في ذلك تقليص نفقاتها والعيش بتواضع لحين تسوية عجزها الوطني الذي يُلقي بظلاله على اقتصادات الدول ذات الصلة بسنداتها التي تتحول رويداً رويداً إلى صكوك مسمومة شبيهة بصكوك الرهن العقاري التي أطلقت شرارة الأزمة المالية في 2008. وإذا ما أطاحت لامبالاة الولايات المتحدة، الثقة العالمية في سنداتها ودولاراتها، فستكون فسحة الوقت ضيقة أمامها لإنقاذ الوضع. وللحديث صلة.
*خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية